الأستاذ فايز دقماق يكتب: بينما ينشغل البعض بتحديد تاريخ انطلاقة الثورة السورية، يغيب عن الأذهان السؤال الأهم: ماذا عن سوريا نفسها؟ وطنٌ يتآكله الانقسام، ويُثقل كاهله الحصار، وتُضيّع قضاياه في زحام الجدالات العقيمة. ليس المهم متى بدأ الحراك، بل كيف يمكن إنقاذ وطن بات أبناؤه منهكين بين المعاناة الاقتصادية والتجاذبات السياسية، في ظل غياب رؤية واضحة وانتظار قرارات لا تأتي.
سوريا.. وطن يحتاج للحب قبل الشرعية
في زحمة النقاشات حول تاريخ انطلاقة الثورة السورية، بين من يرى أنها بدأت في 15 مارس ومن يصر على أنها انطلقت في 18 مارس، يغيب السؤال الأهم: ماذا عن سوريا نفسها؟ ماذا عن وطن أنهكته سنوات من الانقسام وصراع النفوذ، بينما تُدار الأحاديث في دوائر ضيقة، وكأن جوهر القضية مجرد أرقام على ورق؟
سوريا ليست رقماً في تقويم الأحداث، وليست تاريخاً قابلاً للنقاش، بل هي وطن واحد، وطن يجب أن يبقى بعيداً عن شبح التقسيم، عن النزاعات التي تمزقه، عن المصالح التي تطغى على حاجات أبنائه. المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي تطحن السوريين اليوم لن تُحل بنقاشات عن تواريخ الثورة، بل بإعادة النظر في الواقع القائم، في العقوبات التي ترهق البلاد، في السياسات التي تكرّس المعاناة بدل أن تخففها.
بروكسل 9.. لا ضوء في نهاية النفق
آخر التسريبات من مؤتمر بروكسل 9 حول سوريا لم تحمل أي بوادر أمل. لا رفع للعقوبات، لا شرعية مضافة للحكومة الجديدة، بل مزيد من التحذير الأوروبي في التعامل معها. ويُصرح مطلعون إن المؤتمر سيدين العنف في الساحل، وسيدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق أوروبية برعاية أممية، لكن ماذا بعد؟ يبقى السوري العادي عالقاً في متاهة السياسات الدولية، فيما تغيب استراتيجية واضحة للقيادة تستطيع تغيير المعادلة. الإعلام المضاد غائب، والقرارات تبدو مرتبكة، والرهان لا يزال على الشرعية أكثر من طمأنة الخارج أو بناء رؤية داخلية قادرة على التفاوض بقوة.
كيف يُبنى الوطن؟
بعضهم يعتقد أن بناء الوطن يحتاج إلى معارك شرعية ومفاوضات سياسية لا تنتهي، لكن الحقيقة أعمق من ذلك. الأوطان لا تُبنى بالشعارات، ولا تُبنى بمشاعر مؤقتة تنفجر عند الأزمات ثم تخمد عند أول تسوية. الوطن يُبنى بحب حقيقي، بحب لا يعرف المصالح الضيقة، ولا يفرق بين المناطق والطوائف والانتماءات.
يُبنى الوطن عندما تصبح أولوياته الكرامة والحرية، عندما يفهم الجميع أن القادة موظفون في خدمة الشعب لا سادة يتصرفون بمصيره. يُبنى عندما يكون الانتماء لسوريا، لا لفئة، لا لحزب، لا لجغرافيا. باختصار، نحتاج إلى سوريا خالية من الحسابات الضيقة، من المنافسات المريضة، من العنصرية والطائفية والمناطقية التي تمزق نسيجها.
سوريا لن تُبنى بقرارات تصدر من الخارج، ولا بمؤتمرات تتكرر دون نتائج. ستُبنى فقط عندما يقرر السوريون أن يكون حبهم لوطنهم فوق أي خلاف، فوق أي انقسام، فوق أي مصلحة. عندها فقط، يمكننا أن نتحدث عن سوريا جديدة، لا عن تواريخ قديمة.
المحامي فايز دقماق / عضو اتحاد سوريا العهد الجديد
أستاذ في القانون الدولي وعمل على تطوير الأبحاث القانونية في مجالات حقوق الإنسان، العدالة الانتقالية، القانون الجنائي الدولي. ساهم في تقديم الاستشارات القانونية للمنظمات الدولية، وتمثيل القضايا أمام المحاكم الدولية. وشارك في مؤتمرات دولية حول العدالة والسلام
إرسال تعليق